أضعت هويتي
نشرت هذه التدوينة على حبر، شكرا لفريق حبر لتنقيح وتصويب الأخطاء الإملائية واللغوية: أضعت هوية الأحوال المدنية الخاصة بي قبل عيد الفطر المبارك. هي أصلا متهالكة وفيها صورة أكاد أنا نفسي لا اتعرف على الشخص الذي فيها (شكلا ومضمونا). لم أكن أعرف أن هذا الحادث العرضي سيكون له تبعات تفضي الى أن أتنفس الصعداء حين أستلم هويتي الجديدة بقدر لا بأس به من الراحة التي يشوبها كبر من نوع ما… قصتي تبدأ كأي مواطن سمع عن ما يعرف “بسحب الجنسيات” وبغض النظر عن أصل الشخص وفصله، وإن كان يحمل بطاقة جسور خضراء أوصفراء أو كان أجداده هاجروا الى البلاد قبل الحرب أو بعدها أو ممن كانوا أصلا قابعين على هذه الأرض الطيبة أو رحلوا من جبال القوقاز أو هاجروا من كردستان وفارس الشام … فأي مواطن يشعر بقدر من المسؤولية وأنه كغيره ممن يشاطروه هذا الوطن، مواطن له ماله وعليه ما عليه؛ سيشعر بريبة من هذا الموضوع. فيبدأ هذا المواطن الذي كان مطمئن بحتمية استمرارية “مواطنته” وأنها من الثوابت التي من المفترض أن يبني عليها هويته وانتمائته، يبدأ بتقصي الحقائق والتأكد إذا كان هو من ينطبق عليه هذا الكابوس أم لا. هنا تبدأ القصة بأخذ طرائق شتى! فالكثير سيطمئن أن الموضوع لا ينطبق على من يكون من هذا الأصل أو ذاك، فتنتهي الريبة بقطع الشك بيقين الانتماء القبلي بأنه ليس من تلك الفئة “على الإطلاق” ويمضي كما كان! وهنالك من يفاجأ بأنه من تلك الفئة المنكوبة في اليوم الذي يذهب به لاجراء أي معاملة في دائرة الأحوال –على سبيل المثال لا الحصر. قد أتطرق إلى هذا لاحقا ولكن وبالتأكيد أن حياة هؤلاء الأشخاص ستتغير جذريا من بعدها. والبعض قد يتجاوز ما يتناقله الناس من قصص واقعية يشوبها المبالغة الطبيعية في مجتمع مثل مجتمعنا والتي قد يتحمس البعض فينسج – أو ينقل ما نُسج من – نظريات مؤامرة ومخطاطات باطنية سوداوية لاستئصال فئة على حساب أخرى. فيمضي البعض للاستماع للرواية الرسمية والتي ترى في ما يتناقله الأفراد والإعلام -على حد سواء- تضخيم غير مبرر لاجراء قانوني لا ينطوي على أي أبعاد سياسية أو أهداف داخلية مخفية، فهو تصويب لأوضاع بعض “المواطنين” حسب تعليمات فك الارتباط بين الأردن والضفة والذي اتخذ قبل عقود. بلا شك أنه إذا تجاوز المرء التجريد الذي يحتويه هذا الطرح وأن تلك الاجراءات وبغض النظر عن سلامتها القانونية؛ تمس حياة أقوام من الناس قلّوا أو كثروا، ليسوا مجرد أرقام وطنية واحصاءات، بل هم بأسماء وألقاب وهويات وانتماءات جزء كبير منهم لا يعرف غير هذا الوطن، ويبنون آمالهم وأحلامهم على بديهية أن هذا بلدهم! وها أنا، أقف حائرا من أمري، فقد سمعت القصص الواقعية، والروايات الرسمية المعززة بالوقائع والأرقام (وفعلا هنالك مبالغة من قبل الناس والإعلام)، ولكن جواز سفري صالح لأعوام قادمة وهوية الأحوال كذلك، فحتى وإن كنت من تلك الفئة (وها أنا الآن قد اطمأنيت أني لست منهم) فأغلقت هذا الهاجس من باب تأجيل “الهم” وعدم السؤال عنه حتى حين! لكن ضاعت الهوية (هوية الأحوال) وأصبحت مضطرا أن أواجه هذا البعبع الذي كنت قد أدخلته في مستودع التأجيل، وأخذت أستأقصي المعلومات عن أصلي وفصلي، وأسأل ان كان أحد من أفراد عائلتي قد تعرض لأي شيء أو طٌلب منه أن يراجع المتابعة والتفتيش (حيث تبدأ النهاية). بعض كبار العائلة أكدوا لي”إحنا مش منهم… احنا هاجرنا في ال48 ولا نحمل لا كرت أصفر ولا أخضر ولا أحمر كمان…” شحذت قواي، وبعد أسابيع من التأجيل وإيجاد الوقت لهذا العملية التي لا تأخذ أكثر من ساعة، وصلت لفرع الأحوال المدنية التي أتبع لها وعبأت النموذج عند كشك الخدمات وبدأت الأمور (في مخيلتي طبعا) تتباطأ بشكل سريالي وأنا متنبّه لكل ما يدور من حولي…. صاحب كشك الخدمات على الهاتف يتحدث مع “وسيط” قائلا: “عندي ابن عمي بجدد هويته وحولوه على المتابعة والتفتيش… بس هوعمره ما راح ولا اجا، شو العمل؟”… بداية غير مطمئنة. قدمت الطلب وموظف الأحوال يدخل رقمي على الحاسب، يقرأ المعلومات التي على الشاشة، وأنا أحاول استقراء تعبيرات وجهه أو بالأحرى أترقب الوهج الأحمر يخرج من الشاشة معلنا أنني “منهم”… فقط قام الموظف بالتأشير على المعاملة بما أتيح له من قلم حبر… على حظي كان لونه أحمر… ليش أحمر؟ لِما كل هذه “المشروحات” على معاملة اخراج هوية بدل فاقد؟ “استريح على المقاعد يا باسم وأنا بناديك”! أستريح على المقاعد؟ طب دفع الرسوم؟ طب وافق على الطلب؟ أنا أكره الانتظار… سأغرق في التفكير بالاحتمالات… هل سأخرج من هنا بلا هوية؟ لا البطاقة البلاستيكية والرقم والطني، بل هويتي التي قوامها أني انتمي للأردن، مملكة وشعبا ووطنا.. هل هذه نهاية القصة؟ الحمدالله أن الانتظار لم يطل ونودي على إسمي… ودفعت الرسوم وأخذت الوصل، وطلب مني الانتظار نصف ساعة. لكن أنا شكاك… هذا لا يعني أني “نفدت” يجب ان ألمس “هويتي” لأطمئن. مضت النصف ساعة وسمعت إسمي من خلف الزجاج. أمسكتها وأنا “أتنفس الصعداء بقدر لا بأس من الراحة التي يشوبها كبر من نوع ما”! طب ماذا عن الأخ الحيران تحت الذي عليه أن يذهب للمتابعة والتفتيش؟ اختلطت المشاعر عندي، تحول شعور الراحة الى نوع من الخجل والكبر اللحظي الى خزي… أنتهت قصتي التي بالأصل مجرد شخص أضاع “وثيقة” اثبات هوية واستخرج واحدة عوضا عنها. لكن قصة بعضنا (ولو كانو قلة) لم تنتهي، قد يرى البعض أني أضفت بعد درامي لا يغير من الحقائق شيئا، وأنا اعترف بذلك، لا لشيء فقط لأني فعلا أشعر أن هذا الموضوع له تبعات خطيرة على لمفهوم الهوية والانتماء والمواطنة والجنسية والوطنية والمبادئ والثوابت التي على الفرد أن يعرفها ويحس بها ليكون مواطن. فإذا الثوابت كانت عرضة للتغيير لبعض منا، فما يمنع بعضنا الآخر من أن يترقب توسع الدائرة في مرحلة لاحقة أو في حال تغير الظروف والأحوال؟ في “الغرب” اطمئن الفرد إلى حقه بالمواطنة وازيح عنه هم تقلّب الأحوال فوفّر له التأمين الصحي والمسكن والمصروف في حال احتاج الى ذلك، فاصبح مواطن صالح منتج… لا بل مبدع! كنت أعتقد أن المشكلة في بلادنا أن الشعب مهموم بقوته ومعيشته –ومطّهد في بعض الأحيان- فبالكاد يقدر على إحسان مواطنته أو انتاجيته فيصبح الحديث عن الابداع والاتقان ضرب من الترف الفكري … فما حال هذا الشعب إذا اثقل عليه هم هويته؟ أنا لم افكر يوما بالهجرة مع أنها متاحة لي، فانتمائي هو لهذا الوطن وإيماني أن اعماره واجب شرعي وجزء لا يتجزأ من امتدادي والانساني والأممي. أجد نفسي بحاجة على الأقل للتفكير”بخطة بديلة” والتي للأسف تعني “هوية احتياطية”… وهو مفهوم لا اتقبله ولا يتوافق مع حتمية انتمائي ومصيرية ارتباطي بالأردن الذي هو وطني أولا وأخيرا…